فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}.
والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الإِنسان رجًّا غير اختياري، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم؛ ولا حراك بهم؛ ميتين، وفي هيئة الذلة. وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار، لأن هناك لحظة تمر على الإِنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده. ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر، لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعًا لا. في هذه الحالة لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (92):

قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم وما سببه من أقوالهم وأفعالهم، وكان للتخليص من العظمة في القلوب بتصوير المخلص للأذهان ما لا يخفى، لخص ذلك ذاكرًا لأنه حل بهم بالخصوص- ما نسبوا إلى المؤمنين من الخسارة فقال: {الذين كذبوا شعيبًا} أي نسبوه إلى الكذب فيما قاله عنا وأيدناه فيه بالبينات {كأن} أي هم المخصصون بالهلاك حتى كأنهم {لم يغنوا} أي ينزلوا ويقيموا، وبطل مقامهم لاهين بالأفراح والغناء والاستغناء من المغاني وهي المنازل والاستغناء {فيها} أي الدار بسبب تكذيبهم.
ولما كان تكذيب الصادقين لاسيما الرسل في غاية الشناعة، كرره إشارة إلى ذلك وإعلامًا بأنه سبب لهم أعظم من هلاك الأشباح ضد ما سبب التصديق للمؤمنين فقال: {الذين كذبوا شعيبًا} أي تكذيبه سببًا لهلاكهم {كانوا} أي بسبب التكذيب أيضًا {هم} أي خاصة {الخاسرين} أي خسروا أرواحهم كما خسروا أشباحهم فهم لما سوى ذلك أخسر، وأما الذين اتبعوه فما نالهم شيء من الخسار، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لآرائهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} وفيه بحثان:
البحث الأول: في قوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قولان: أحدهما: يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها.
والثاني: المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني.
قال الشاعر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد

أراد أقاموا فيها، وعلى هذا الوجه كان قوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها.
والقول الثاني: قال الزجاج: كأن لم يغنوا فيها، كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى، وهو من الغني الذي هو ضد الفقر.
وإذا عرفت هذا فنقول: على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار.
قال الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والجدود العواثر

البحث الثاني: قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَواْ فِيهَا} الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصًا بأولئك المكذبين، وذلك يدل على أشياء: أحدها: أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار، وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لحصل في أتباع شعيب، كما حصل في حق الكفار.
والثاني: يدل على أن ذلك الفاعل المختار، عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي.
وثالثها: يدل على المعجز العظيم في حق شعيب، لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة، كان ذلك من أعظم المعجزات.
ثم قال تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} وإنما كرر قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم، فيقول الرجل لغيره: أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي هتك أعراضنا، وأيضًا أن القوم لما قالوا: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لخاسرون} بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يعني كأن لم يكونوا فيها قط وقال قتادة: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يعني: كأن لم يتنعموا فيها.
ويقال: معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكن هناك أحد يعني: لم يعيشوا.
ويقال: كأن لم يعمروا.
ثم قال: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} يعني: المغبونين في العقوبة، يعني: إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون.
فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا منهم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا، وأصله من قولهم غنيّة بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد:
وغنيت ستًا قبل مجرى داهس ** لو كان للنفس اللجوج خلود

وقال حاتم:
غنينا زمانًا للتصعلك والغنى ** فكلا سقانا بكأسيهما الدهر

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} لا المؤمنون كما زعموا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيبًا كَأنَ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا}.
فيه أربعة تأويلات:
أحدها: كأنك لم يقيموا فيها، قاله ابن قتيبة.
والثاني: كأن لم يعيشوا فيها، قاله الأخفش.
والثالث: كأن لم ينعموا فيها، قاله قتادة.
والرابع: كأن لم يعمروا فيها، قاله ابن عباس.
{الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْبًا كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: بالكفر.
والثاني: بالهلاك، قاله ابن عباس. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {كأن لم يغنوا فيها}.
لفظ فيها للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم، ونحو هذا قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

و{يغنوا} معناه يقيموا ويسكنوا.
قال القاضي أبو محمد: وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضٍ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
وقد نغنى بها ونرى عصورًا ** بها يقتدننا الخرد الخذالا

ومنه قول الآخر: [الرمل]
ولقد يغني بها جيرانك المس ** تمسكون منكم بعهد ووصال

أنشده الطبري، ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا حيّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا

ومنه قول مهلهل: [الخفيف]
غنيت دارنا تهامة في الدهر ** وفيها بنو معد حَلُّوا

ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء، وأما قوله: {كأن لم تغن بالأمس} ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنه بهذا المعنى وأما قول الشاعر: [الطويل]
غنينا زمانًا بالتصعلك والغنا ** وكلًا سقاناه بكأسيهما الدهرُ

فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنه بمكان. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كأن لم يَغْنَواْ فيها}.
فيه أربعة أقوال:
أحدها: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش.
قال حاتم طيئ:
غَنِيْنَا زَمَانًا بالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى ** فَكُلًا سَقَانَاه بكأْسَيْهِما الدَّهْرُ

فَمَا زَادَنَا بَغْيًا عَلَى ذِي قَرَابَةٍ ** غِنَانَا، ولا أزْرَى بأحْسَابِنَا الفَقْرُ

قال الزجاج: معنى غنينا: عشنا.
والتصعلك: الفقر، والعرب تقول للفقير: الصعلوك.
والثاني: كأن لم يتنعَّموا فيها، قاله قتادة.
والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل.
والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج.
قال الأصمعي المغاني: المنازل؛ يقال: غنينا بمكان كذا، أي: نزلنا به.
وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا فيها، ومعنى: غنينا بمكان كذا: أقمنا.
قال ابن الأنباري: وإنما كرر قوله: {الذين كذبوا شعيبًا} للمبالغة في ذمهم؛ كما تقول أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قال الجرجانِيّ: قيل هذا كلام مستأنف؛ أي الذين كذبوا شعيبا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى.
و{يَغْنَوْا} يقيموا؛ يقال: غَنِيت بالمكان إذا أقمت به.
وغنِي القوم في دارهم أي طال مُقامهم فيها.
والمَغْنَى: المنزل؛ والجمع المَغَاني.
قال لَبِيد:
وغَنِيت سِتًا قبلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ** لو كان للنفس اللَّجُوجِ خُلود

وقال حاتم طيّئ:
غنِينا زمانا بالتَّصَعْلُكِ والغِنَى ** كما الدّهرُ في أيامه العسرُ واليسرُ

كسبنا صُروفَ الدَّهْر لِينًا وغِلظة ** وكلًا سقاناه بكأْسِهما الدهرُ

فما زادنا بَغْيًا على ذِي قرابة ** غِنَانَا ولا أَزْرَى بأحسابنا الفَقْرُ

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأمر وتفخيمه.
ولما قالوا: من اتبع شعيبًا خاسِر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول. اهـ.